اَلدَّرْسُ الرَّابِعُ وَ الْخَمْسُونَ وَ الْمِائَةُ
اَلْفَهْدُ
فَصِيلَةٌ جَنْدَلَةٌ مَقْتَلٌ حَنَقٌ رُبُوٌّ
هو أجمل جميع الحيوانات التي هي من فصيلة الهر. و يوجد في قارّتي آسيا و أفريقية. و هو أصغر من النمر بنية و لكن هيئته جميلة محبوبة و جلده أصفر تعلوه بقع سوداء فتزيده جمالا. و في بلاد الهند يسمونه نمر الشجر لأنه يتسلق مثل الهرة و يتنقل من غصن إلى آخر بمهارة تامة و بهذه الواسطة يتمكن من اقتناص كثير من الحيوانات التي لا يستطيع اقتناصها الأسد و لا النمر. و هو يخاف كثيرا من القناصين فمتى شعر بهم يختبئ في أجمة كثيفة. و لكن كلاب الصيد لا تلبث أن تدركه فلا يبقى له من سبيل للنجاة إلا العدو السريع أو تسلق الأشجار الضخمة العالية الملتفة. فمتى اختبأ بين غصون الأشجار أمن على نفسه من الكلاب و لكنه لا يأمن رصاص القناصين إذا أبصروه و هم لا بجرؤون على الدنو من الشجرة التي يتسلقها إذ يخافون أن يباغتهم بالوثوب عليهم فلذلك يكمنون بعيدا و ينتظرون ظهوره بصبر عجيب فحالما يرونه يطلقون عليه الرصاص و يجند لونه. فإذا أصاب الرصاص منه مقتلا سقط للحال قتيلا و لكنه إذا جرح يشتد به الغيظ و يهجم على القناصين بحنق و شدة بأس. و كثيرا ما وجدت أنيابه و أظفاره سبيلا إلى جلود بعضهم فمزقتها تمزيقا.
و الفهد مولع بأكل الدجاج كالثعلب و يجول مثله حول بيوت الدجاج على أمل امساك بعضها. و كثيرا ما حدث أن ينهض المزارع صباحا فلا يجد في بيت الدجاج و لا دجاجة فيعلم أن الفهد قد زاره. الفهد من الحيوانات التي يسهل تطبيعها فإذا أخذ صغيرا و ربي في بيت نشأ أليفا أنيسا و هو يحب اللعب طبعا و صغاره جميلة المنظر أنيسة و لا تفرق في المؤالفة عن صغار الهررة.
اَلدَّرْسُ الخَامِسُ وَ الْخَمْسُونَ وَ الْمِائَةُ
الناسك و الفأرة
مُسْتَجَابٌ حِدَأَةٌ دِرْصٌ جِرْمٌ كَسْفٌ جُرَدٌ خَرْقٌ
زعموا أنه ناسك مستجاب الدعوة. فبينما هو ذات يوم جالس على ساحل البحر إذ مرت به حدأة في رجلها درص فأرة. فوقعت منها عند الناسك و أدركته لها رحمة لفأخذها و لفها في ورقة و ذهب بها إلى منزله. ثم خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن يحولها جارية فتحولت جارية حسناء. فانطلق بها إلى امرأته فقال لها هذه ابنتي فاصنعي معها صنيعك بولدي. فلما كبرت قال لها الناسك يا بنية اختاري من أحببت حتى أزوجك إياه. فقالت أما إذا خيرتني فأني أختار زوجا يكون أقوى الأشياء. فقال الناسك لعلك تريدين الشمس. ثم انطلق إلى الشمس فقال لها أيها الخلق العظيم لي جارية و قد طلبت زوجا يكون أقوى الأشياء فهل أنت متزوجها؟ فقالت الشمس أنا أدلك على من هو أقوى مني الساحب الذي بغطيني و يرد جرم شعاعي و يكسف أشعة أنواري. فذهب الناسك إلى السحاب فقال له ما قال للشمس. فقال السحاب و أنا أدلك على من هو أقوى مني فاذهب إلى الريح التي تقبل لي و تدبر و تذهب بي شرقا و غربا. فجاء الناسك إلى الريح فقال لها كقوله للسحاب. فقالت و أنا أدلك على من هو أقوى مني و هو الجبل الذي لا أقدر على تحريكه. فمضى إلى الجبل فقال له القول. فأجابه الجبل و قال أنا أدلك على من هو أقوى مني الجرذ الذي لا أستطيع الإمتناع منه إذا خرقني و اتخذني مسكنا. فانطلق الناسك إلى الجرد فقال له هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال و كيف أتزمجها و مسكني ضيق و إنما يتزوج الجرذ الفأرة. فدعا الناسك ربه أن يحولها فأرة كما كانت. و ذلك برضا الجارية. فأعادها الله إلى عنصرها الأول فانطلقت مع الجرذ.
اَلدَّرْسُ السَّادِسُ وَ الْخَمْسُونَ وَ الْمِائَةُ
قصيدة حِكمية
اِسْتِعْبَادٌ قَاطِبَةً خِدْنٌ خُلٌّ تَحَامِي إِثْرَاءٌ إِبَّانٌ
اِسْتِنَامَةٌ صِلٌّ غَائِلَةٌ قَرِيرُ الْعَيْنِ جَذْلاَن نُبُوٌّ
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الْإِنْسَان إِحْسَانُ
مَنْ جَادَ بِالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً إِلَيْهِ وَ الْحَالُ لِلْإِنْسَانِ فَتَّانُ
مَنْ كَانَ لِلْخَيْرِ مَنَّاعًا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ إِخْوَانٌ وَ أَخْدَانُ
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
حَسْبُ الْفَتّى عَقْلُهُ خِلاَّ يُعَاشِرُهُ إِذَا تَحَامَاهُ إِخْوَانٌ وَ خُلاَنُ
وَ ذُو الْقَنَاعَةِ رَاضٍ فِي مَعِيشَتِهِ وَ صَاحِبُ الْحِرْصِ إِنْ أَثْرَى فَغَضْبَانُ
مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ لاَقَى مِنْهُم نَصَبًا لِأَنَّ طَبْعَهُمْ بَغْيٌ وَ عُدْوَانُ
مَنْ يَزْرَعِ الشَّرَّ يَحْصُدْ فِي عَوَاقِبِهِ نَدَامَةً وَ لِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ
مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الْأَشْرَارِ نَامَ وَ فِي قَمِيصِهِ مِنْهُمْ صِلٌّ وَ ثُعْبَانُ
مَنْ سَالَمَ النَّاسَ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِبِهِمْ وَ عَاشَ وَ هُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ جَذْلاَنُ
إِذَا نَبَا بِكَرِيمٍ مَوْطِنٌ فَلَهُ وَرَاءَهُ فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ أَوْطَانُ
اَلدَّرْسُ السَّابِعُ وَ الْخَمْسُونَ وَ الْمِائَةُ
قصيدة حِكمية
أَخُو جَهْل لُجَّةٌ إِحْصَاءٌ صَدَّاءٌ سَعْدَانٌ سَحْبَانٌ
بَاقِلٌ جَبْرَ جُبُورٌ قناة نَوْر فَاغم
لاَ تَحْسَبَنَّ سُرُورًا دَائِمًا أَبَدًا مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ الْمَرْضِيُّ سِيرَتُهُ أَبْشِرْ فَأَنْتَ بِغَيْرِ الْمَاءِ رَيَّانُ
وَ يَا أَخَا الْجَهْلِ لَوْ أَصْبَحْتَ فِي لُجَجٍ فَأَنْتَ مَا بَيْنَهَا لاَ شَكَّ ظَمْآنُ
دَعِ التَّكَاسُلَ فِي الْخَيْرَاتِ تَطْلُبُهَا فَلَيْسَ يَسْعَدُ بِالْخَيْرَاتِ كَسْلاَنُ
لاَ تَحْسَبِ النَّاسَ طَبْعًا وَاحِدًا فَلَهُمْ غَرَائِزٌ لَسْتَ تُحْصِيهَا وَ أَلْوَانُ
مَا كُلُّ مَاءٍ كَصَدَّاءٍ بِوَارِدِهِ نَعَمْ وَ لاَ كُلُّ نَبْتٍ فَهُوَ سَعْدَانُ
مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبٍ فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَ خِذْلاَنٌ
سَحْبَانُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ بَاقِلٌ حَصِرٌ وَ بَاقِلٌ فِي شِرَاءِ الْمَالِ سَحْبَانُ
كُلُّ الذُّنُوبِ فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُهَا إِنْ شَيَّعَ الْمَرْءَ إِخْلاَصٌ وَ إِيمَانُ
وَ كُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبِرُهُ وَ مَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ
أَحْسِنْ إِذَا كَانَ اِمْكَانٌ وَ مَقْدُرَةٌ فَلاَ يَدُومُ عَلَى الْإِنْسَانِ اِمْكَانُ
فَالرَّوْضُ يَزْدَادُ فَاغِمُهُ وَ الْحُرُّ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسَانِ يَزْدَاد
اَلدَّرْسُ الثَّامِنُ وَ الْخَمْسُونَ وَ الْمِائَةُ
النمل
حَقَارَةٌ ضآلَةٌ إِغَارَةٌ مُجَاوَرَةٌ أَسْرٌ زُجَاجَةٌ نُقْضٌ نَحْوٌ
اِحْدِيدَابٌ شَوْهَاء مُجَاهَدَةٌ عُثُورٌ قِطَارٌ نَفَقٌ حَصَادٌ
سِرْدَابٌ غِشٌّ حَرَزٌ مَا لَبِثَ أَنْ فَرَّ لَمْ يَعْدُ يَجِيئُ
ما أصغر أجسام النمل و ما أحقرها في نظر الإنسان. و لكن لو كانت العقول مناسبة للأجسام صغرا و كبرا لكان الفيل أعقل الحيوانات المعروفة و لما أمكن الغلام الصغير أن يقود الجمال الشديدة الضخمة و لما أمكن النمل على ضآلة جسمه أن يأتي بالعجيب المدهش من الأعمال و التدبيرات. اعتنى كثير من العلماء بالبحث في أحوال النمل جميعها فدهشوا من عظم مارأوا حتى أن بعضهم قال إن النمل لإنسان مصغر. إن هناك جيوشا من النمل تخرج للإغارة على ممالك النمل المجاورة لها إذا كانت أقل منها قوة و بأسا فيغيرون على ديارهم و يخرجونهم منها متخذين الأسرى عبيدا لخدمتهم. و هذا النوع من النمل لا يكاد يستطيع أن يقوم بتدبير شؤونه و أحواله فلا يخدم نفسه بنفسه بل يعتمد في ذلك على العبيد التي تؤسر في الحروب كما كان الشأن أيام العرب في الجاهلية و كذا بين سُكّان البادية والصحارى في الزمن الحاضر. و قد شاهد بعض العلماء ذلك بنفسه إذ وضع أفرادا من ذلك النمل في زجاجة و أدخل معها بعض أنقاض من مساكنها التي كانت فيها. و كذلك وضع معها شيئا من الطعام فشاهد ذلك الباحث أن تلك الأفراد صارت حيارى لا تدري ماذا تصنع إذ كانت تطوف في جميع أنحاء تلك الزجاجة غير مهتدية لشيئ حتى الطعام. ثم أخذ الرجل من عبيدها نملة صغيرة محدودبة شوهاء فأدخلها في الزجاجة فلم تلبث أن أخذت تطعم سادتها و تخدمهم و تأتيهم بجميع مطالبهم كما تفعل الأم أو القيام بجميع ما يجب لهم عليها أخذت تصلح ما تهدم من مساكنهم التي في الزجاجة. و هناك من النمل أفراد مجاهدة فلا يكاد يلتقي منها اثنتان و تنصرفان إلا بعد موقعة دموية تنجلي في الغالب عن قتل إحداهما. و هناك يلتفّ حول القتيل جماعة من صغار النمل فيحملونه إلى حيث يسكنون. و لا تكاد تعثر على نملة من ذلك النوع إلا و تجدها منقوصة عضوٍ من أعضائها من أثر ما جرى لها في إحدى المواقع الحربية.
و هناك نوع آخر يبني مساكن ذات جدران و سقف من أوراق الأشجار فتجدها تمشي قطارا قطارا يحمل كل منها شيئا من أوراق الشجر التي تظلل رأسها لكبرها. و لا تزال سائرة بها حتى تنتهي إلى ما يراد بناؤه من المساكن.
و هناك تجعلها سقفا مؤلفة بطريقة عجيبة مغطاة بطبقات طينية أما تلك المساكن فإن بعضها تحت الأرض و بعضها فوقها و يحتوي الأول عل أنفاق كثيرة. أما الجزء الذي فوق الأرض فيرتفع سقفه حتى يبلغ نحو سنتيمترا تقريبا. و من العجيب أن البنائين من هذا النوع غير تلك الطوائف التي تجلب الأوراق من أماكنها. فإن وظيفة هذه الطوائف إنما هو جلب أوراق الأشجار من معاهدها حتى إذا حضرت بها القتها ثم تذهب لتأتي بغيرها و لا عمل لها سوى ذلك. و من أنواع النمل الشهيرة ما يجمع حبوبا كثيرة في أيام الحصاد و يدخل بها في سراديب عميقة تحت الأرض ليخزنها في مخازن أعدت لها تختلف سعة و ضيقا.
و من طبائع هذه النمال أنها تحتاط كثيرا في انتخاب ما تجمعه من الحبوب التي تخزنها. فلقد غشها بعضهم مرة رآها تجمع الحبوب فوضع في طريقها خرزا صغيرا فأخذته و ذهبت به إلى مخازنها و لكن لم تلبث إلا قليلا حتى تبينت حقيقة تلك الخرزات فأخرجتها و لم تعد تحمل منها شيئا أصلا.
اَلدَّرْسُ التَّاسِعُ وَ الْخَمْسُونَ وَ الْمِائَةُ
النمل
إِلْجَاءٌ خَوَاءٌ خَلاَءٌ زَريبَةٌ فتك ذَرِيعٌ شَنِيعٌ غَمْرٌ
مُعْظَمُ جَرْفٌ سَيْلٌ تَأَهُّبٌ مكافحة غَايَةٌ تَعَاقُبٌ
تَذَبْذُبٌ قَنَاةٌ نَسَقٌ قَنْطَرَةٌ
لعلك تظن أن ما ذكرناه لك هنا هو منتهى ما يأتي به النمل من العجائب. إذا فماذا ترى فيما ساسرده عليك هنا من حذيث النمل الهازم الذي لم يسم بذلك إلا لكونه يهزم أمامه كل ما يصادفه من الحيوان بل يلجئ كثيرا من الناس في أواسط أفريقية للمهاجرة من بيوتهم و تركها خاوية خالية فارين من جيوش ذلك النمل إلى بعض الجداول أو البرك التي بها ماء لعلمهم أن النمل لا يجسر على النزول في الماء إلا إذا ألجئ إليه. و قد تدخل طوائف هذه النمال على الخنازير و غيرها من الحيوان في زرائبها فتفتك بها فتكا ذريعا و تقتلها قتلا شنيعا. لا تختار جيوش هذا النمل الزحف للإغارة على غيرها من الحيوان إلا في الليالي المظلمة أو الأيام التي بها غيم كثير لأنها لا تحتمل تأثير أشعة الشمس و لكن إذا اضطرها الأمر إلى السير في ضوء النهار فإنها تبني سقفا ممتدا فوق الطريق التي تختارها للزحف. و يتألف هذا السقف من تراب الأرض فيأخذه النمل و يخلطه بشيئ من لهابه اللزج لتتماسك أجزاؤه متى جففت الرطوبة حرارة الجو. قد ينزل المطر في بعض تلك البلاد الحارة كأفواه القِرب فيغمر معظم الأماكن و يخرب كثيرا من المساكن خصوصا تلك المساكن الصغيرة الحقيرة التي يسكن فيها النمل فماذا عسى أن تكون حالة ذلك الحيوان الصغير المسكين؟ يخيل للأنسان أن المطر لابد أن يهلكه كما هدم مساكنه. و لكن لو رأيت ماذا يفعل هذا الحيوان الضئيل لتعجبت من مهارته و حذقه. و ذلك أنه متى شعر بذلك السيل الجارف يجتمع و ينضم بعضه إلى بعض حتى يتكون منه شبه كرة تعوم على سطع الماء يكون في وسطها الإناث و الصغار و الضعفاء و يحيط بالجميع الأفراد الأقوياء من الذكور. وإنما يفعلون ذلك لأن الكرة المتكونة من مجموع الأفراد خفيفة فلا تغرق و كذلك لا يمكن أن يدخل الماء إلى وسطها فإذا يكون إناثه و صغاره و ضعفاؤه في مأمن من إصابة الماء. فانظر إلى ما ألهمه الله و وهبه من الذكاء. قد ذكرنا أن الناس يخافون من ذلك النمل الهازم و لذلك قيل إنهم لا يكادون يرون بعض طوائفه حتى يتأهبوا لمكافحته و محاربته فيجمعوا شيئا من سعف النخل و غصون الأشجار و أوراقها و يوقدوها حيث تبني تلك الطوائف مساكنها ليحرقها و هي مجتمعة فيها. إلا أن الطريقة لم توصل إلى غاية مرضية و لم تأت بفائدة تامة فإن كثيرا من النمل يفر و يتجمع على بعض فروع الأشجار القريبة. و قد تتألف منه خيوط طويلة تتصل أطرافها بفروع الأشجار الأخرى. و لذلك النمل في تأليف تلك الخيوط حيلة عجيبة. و ذلك أن النملة قوية منها تتعلق بفرع من شجرة فتتشبث به بشدة طارحة بقية جسمها في الفضاء فتأتي أخرى فتنَزّل ماشية على جسم تلك الأولى حتى تنتهي إلى أطرافها المرسلة في الهواء فتتعلق بها و ترمي بقية جسمها أيضا في الفضاء و لا يزالون يتعاقبون على ذلك النحو حتى تتألف منهم سلسلة طويلة تتدلى في الهواء متذبذبة. فعند ذلك تسقط منها نملة عظيمة على فرع آخر من الشجرة فتمكن منه أرجلها الخلفية ثم تترقب مرور تلك السلسلة بها فتقبض على طرفها المرسل في الهواء بأرجلها الأمامية. وبهذا الكيفية يمكن للنمل أن ينتقل من فرع إلى آخر فلا تلبث الشجرة إلا قليلا حتى تتغطى تماما بغطاء من ذلك النمل أسود. و قد شاهد كثير ممن رحلوا إلى أواسط أفريقية أن جيوش هذا النوع قد تريد أن تصل إلى بعض الأماكن فيعترضها في طريقها جدول ماء أو قناة فتحتال على عبورها بتلك الطريقة تؤلف سلسلة طويلة جدا على النسق السابق و لا تزال تلك السلسلة تتذبذب في الهواء حتى تصل إلى أرض الحافة الأخرى أوالى شجرة فيها. ثم تتخذ هذه السلسلة كقنطرة لعبور بقية الأفراد إلى الجانب الآخر.
اَلدَّرْسُ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
الأهرام
مَبْنًى بِلًى أَعْرَابٌ إِلْصَاقٌ بَدِيعٌ إِحْكَامٌ
اِتْقَانٌ عَصْفٌ زَعْزَعَةٌ تِمْثَالٌ دَارُ الْآثَارِ
من المباني التي يبلى الزمان و لا تبلى الأهرام. و هي قديمة العهد معجزة البناء غريبة المنظر مثلثة الشكل قد قامت في جو السماء لا سيما الهرمان الكبيران. و قد يمكن الصعود إلى أعلاها على خطر و مشقة إلا إذا كان بمساعدة الأعراب هناك. فترى أطرافها المحددة واسعة جدا و قد أقيمت من الصخور العظيمة المنحوتة و رُكِّبت تركيبا بديع الإلصاق. أما الهرمان العظيمان فهما لإحكام صناعتهما وإتقان هندستهما لا يؤثر فيهما عصف الرباح و لا هطل السحاب و لا زعزعة الزلازل. و هي قبور ملوك عظام أرادوا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم كما تميزوا عنهم في حيانتهم فيبقى ذكرهم على ممر الدهور. و كان المشتغل ببناء الهرم الأكبر من المصريين على الدوام مئة ألف يستبدلون بمثلهم كل ثلاثة أشهر. و قد وجدوا اسم بانيه الملك "خُوفُو" منقوشا على حجر في أرض الحجرة التي كانت أعدت لدفنه. و قد ظهرت بعد أن بُنِيَ الهرم الأكبر و الهرم الثاني لم يدفنا فيهما لأن الأهالي بسبب ما قاسوه من الشدائد في بناء هذين الهرمين حلفوا أن يخرجوا جثتهما بعد موتههما و يقطعوهما أربا أربا. فلما شعر بذلك الملكان أوصيا أقاربهما أن يدفنوهما في الهرمين بل يجعلوا جثتيهما محفوظتين من أيدي أعدائهما فدفنا في مقابر أخرى. و يوجد تمثال باني الهرم الثاني في دار الآثار المصرية.
اَلدَّرْسُ الْحَادِي وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
القُنبرة و الفيل
قُنْبَرَةٌ دَوْسٌ هَشْمٌ جِوَارٌ عَقْعَقٌ وَهْدَةٌ نَقِيقٌ طَاغٍ
زعموا أن قنبرة اتخذت عشا و باضت فيه على طريق فيل كان له هناك مشرب يرد إليه. فمر ذات يوم كعادته ليشرب فداس عش القنبرة و هشم بيضها و قتل فراخها. فلما نظرت القنبرة ذلك علمت أن الذي أصابها كان من الفيل لا من غيره. فطارت فوقعت على رأسه باكية تقول أيها الملك لم هشمت بيضي و قتلت فراخي و أنا في جوارك؟ أفعلت هذا استصغارا لأمري و احتقارا لشأني؟ قال نعم. فتركته و انصرفت إلى الطيور فشكت إليهن ما نابها من الفيل. فطلبت من العقاعق و الغربان أن يسرن معها إليه ليفقأن عينيه حتى تحتال له بحيلة أخرى فذهبن معها و لم يزلن ينقرن عينيه حتى عمي و بقي لا يهتدي إلى طريق مطعمه و مشربه. غلما تحققت القنبرة عماه ذهبت إلى غدير فيه ضفادع فشكت إليهن ما نالها من الفيل فقالت الضفادع لا حيلة لنا في مساعدتك على ذلك الملك العظيم. فقالت لهن إنما أريد منكن أن تسرن معي إلى وهدة قريبة منه فتنققن فيها. فأجبنها إلى ذلك و اجتمعن في الوهدة القريبة منه. فلما سمع الفيل نقيق الضفادع و قد أجهده العطش ظن أن هناك ماء فأقبل يمشي نحو الوهدة حتي سقط فيها. فجاءت القنبرة إليه و قالت له أيها الطاغي المغرور بحوله و قوته المحتقر للضعفاء كيف رأيت حيلتي مع صغر جسمي بالنسبة لعظم جثتك.
اَلدَّرْسُ الثَّانِي وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
قصيدة حِكمية
لَعُمْرُكَ حَظٌّ نِطَاقٌ عِقْدٌ بَاعٌ قَيْدٌ قَيْدُ بَاعٍ
وِثَاقٌ مَذَاقٌ سُوقَةٌ سِبَاقٌ حَرْبُ السِّبَاقِ نَفَاقٌ
نَفَقَ الْمَالُ نَفَقَ الْبَيْعُ كَسَدَ الْمَالُ نِضَارٌ
لَعَمْرُكَ لَيْسَ فَوْقَ الْأَرْضِ بَاقِ وَ لاَ مِمَّا قَضَاهُ اللهُ وَاقِ
وَ مَا لِلْمَرْءِ حَظٌّ غَيْرُ قُوتٍ وَ لَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُ الْعِرَاقِ
أَضَلُّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا سَبِيلاً مُحِبٌّ بَاتَ مِنْهَا فِي وِثَاقِ
وَ أَخْسَرُ مَا يَضِيعُ الْعُمْرُ فِيهِ فُضُولُ الْمَالِ تُجْمَعُ لِلرِّفَاقِ
وَ أَفْضَلُ مَا اشْتَغَلْتَ بِهِ كِتَابٌ جَلِيلٌ نَفْعُهُ حُلْوُ الْمَذَاقِ
وَ عِشْرَةُ حَاذِقٍ فَطِنٍ لَبِيبٍ يُفِيدُكَ مِنْ مَعَانِيهِ الدِّقَاقِ
مَضَى ذِكْرُ الْمُلُوكِ بِكُلِّ عَصْرٍ وَ ذِكْرُ السُّوقَةِ الْعُلَمَاءِ بَاقِ
وَ كَمْ عِلْمٍ جَنَى مَالاً وَ جَاهًا وَ كَمْ مَالٍ جَنَى حَرْبَ السِّبَاقِ
وَ مَا نَفْعُ الدَّرَاهِمِ مَعَ جَهُولٍ يُبَاعُ بِدِرْهَمٍ وَقْتَ النَّفَاقِ
إِذَا حُمِلَ النِّضَارُ عَلَى نِيَاقٍ فَأَيُّ الْفَخْرِ يُحْسَبُ لِلنياقِ
اَلدَّرْسُ الثَّالِثُ وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
قصيدة حِكمية
غَصَصٌ فَلْسٌ رَقِيقٌ عِتَاقٌ طُرًّا تَرَاقٍ طَاقٌ
كَأْسٌ دِهَاقٌ قِدْمًا خَلاَعَةٌ مِعْصَمٌ رِوَاقٌ سَبْقٌ
لَحَاقٌ زِعْنِفَةٌ اِصْطِبَاحٌ اِغْتِبَاقٌ رَاقٍ
وَ أَقْبَحُ مَا يَكُونُ غِنَى بَخِيلٍ يَغَصُّ وَ مَاؤهُ مِلْءُ الزِّقَاقِ
إِذَا مَلَكَتْ يَدَاهُ الْفَلْسَ أَمْسَى رَقِبقًا لَيْسَ يَطْمَعُ فِي الْعِتَاقِ
أَلاَ يَا جَامِعَ الْأَمْوَالِ هَلاَ جَمَعْتَ لَهَا زَمَانًا لِافْتِرَاقِ
إِذَا أَحْرَزْتَ مَالَ الْأَرْضِ طُرًّا فَمَا لَكَ فَوْقَ عَيْشِكَ مِنْ تَرَاقِ
أَتَأْكُلُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ كَبْشٍ وَ تَلْبَسُ أَلْفَ طَاقٍ فَوْقَ طَاقِ
فُضُولُ الْعمالِ ذَاهِبَةٌ جزافًا كَمَاءٍ صُبَّ فِي كَأْسٍ دِهَاقِ
مَضَتْ دُوَلُ الْعُلُومِ الزُّهْرِ قِدْمًا وَ قَامَتْ دَوْلَةُ الصُّفْرِ الرِّقَاقِ
فَأَصْبَحَ يَدَّعِي بِالسَّبْقِ جَهْلاً زَعَانِفُ يَعْجَزُونَ عَنِ اللَّحَاقِ
إِذَا هَلَكَتْ رِجَالُ الْحَيِّ أَضْحَى صَبِيُّ الْقَوْمِ يَحْلِفُ بِالطَّلاَقِ
أَسَرُّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا جَهُولٌ يُفَكِّرُ فِي اصْطِبَاحٍ وَ اغْتِبَاقِ
وَ أَتْعَبُهُمْ رَئِيسٌ كُلَّ يَوْمٍ يَكُونُ لِكُلِّ مَلْسُوعٍ كَرَاقِ
اَلدَّرْسُ الرَّابِعُ وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
تيقظ الكلب
وُلُوعٌ مَكْرٌ صَكٌّ اِسْتِدَانَةٌ مَكْتَبٌ اِسْتِلاَمٌ مَزْحٌ
هَزٌّ اِرْتِيَابٌ وِدَادٌ طَلَبَ إِلَيْهِ فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ؟
يحكى أنه كان في مدينة من بلاد الْإِنْكلِيزِ تاجر له كلب ربّاه صغيرا. و كان نادرة بين الكلاب لقوة تيقظه. فكان يفهم بالإشارة و الكلام كما يفهم الإنسان بنطق اللسان. و كان هذا الكلب عند صاحبه بمنْزلة عظيمة حتى لم يكن له طاقة على مفارقته ساعة واحدة لولوعه به. و كان في تلك المدينة رجل من المكرة بينه و بين التاجر صداقة. و كان كثيرا ما يتردد إليه و يقصده لاستفراض دراهم منه فيعطيه ما طلب دون أن يسأله عن صك أو سند لأمانته به و صدقه معه. فطمع الرجل في نفسه و قال إن صاحبي هذا رجل كثير المال لا يكاد يمسك عني شيئا و لابد لي أن أحتال عليه بمبلغ من المال أستدينه منه إلى مدة ثم أنكره عليه. فقصده يوما عند الغروب و ليس في المكتب غير التاجر و كلبه. و كان قد هم بالإنصراف فدخل عليه الرجل و قال له قد جئتك يا صاحب في طلب خمس مئة ليرةٍ تعطيني إياها على سبيل القرض إلى مدة خمسة عشر يوما. و أنا أدفعها لك في وقت استحقاقها مع فائضها و أرجو منك عدم المؤخذة لدخولي عليك في مثل هذا الوقت. فأجابه إلى ما طلب و دفع له المال. و لما قبض الدرهم قال للتاجر هل تأمر بكتابة الصك حتى أمضيه لك قبل ذهابي. و كان قصده تتميم الحيلة لعلمه أنه لا يوجد أحد غيرهما في ذلك المكان و أنه لا يطلب إليه شيئا من ذلك. فقال التاجر قد انصرفت الكُتَّاب و الدفاتر و الأوراق مقفل عليها فلا حاجة إلى كتابة صك. و إن كنت أخاف عليك من الإنكار فكلبي هذا يشهد بأنك قد قبضت المال. ثم التفت إلى الكلب و قال له إن هذا الرجل قد استلم منا خمس مئة ليرةٍ و وعد بأنه يقوم بدفعها بعد مرور خمسة عشر يوما من هذا الوقت. و صار يشير بيده إلى الدراهم التي أخذها و يبين له بأصابعه عدد أيام المدة. و كان كلامه هذا على سبيل المزاح. و كان الكلب كلما أشار له صاحبه بإشارة يهز برأسه كأنه عرف قصد سيده.
ثم خرج الرجل من المكتب و توجه التاجر إلى منزله. فلما انقضب المدة و لم يحضر الرجل لدفع الدراهم قال التاجر في نفسه قد استحق ما لنا على صاحبنا فلان و لم يحضر الدراهم فما عسى أن يكون؟ و لم يطالبه مدة أيام و هو لم يحضر فارتاب التاجر في أمره و أرسل غلاما من الكتبة يطالبه بدفع المال. فأنكر الرجل و قال للغلام ليس لسيدك عندي مال. فرجع و أخبر سيده بما قاله ذلك الرجل فنهض التاجر في الحال و سار بنفسه إليه و طالبه بالدراهم. فقال ليس لك عندي مال. قال إن لي عندك مبلغ كذا استقرضته مني في اليوم الفلاني إلى مدة خمسة عشر يوما و قد انقضى الأجل و استحق دفع المال. و أنا لم أطالبك لما بيني و بينك من الوداد. فقال لم أستقرض منك مالا و ما لك عندي دراهم. فتركه التاجر لما عرف سوء نيته و توجه إلى الحاكم و رفع إليه دعواه.
اَلدَّرْسُ الْخَامِسُ وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
تيقُّظ الكلب
اِسْتِدْعَاءٌ زُورٌ بُهْتَانٌ غَرِيمٌ بَيِّنَةٌ قَضِيَّةٌ تَسْجِيلٌ جُمْهُورٌ
تَمْيِيزٌ مُرَافَعَةٌ مُوَاظَبَةٌ زِيٌّ كَاسِرٌ عَضٌّ رَغِبَ إِلَيْهِ
فاستدعى الحاكم ذاك الرجل و قال له إنّ هذا التاجر يقول أنّ
له عندك خمس مئة ليرة قد أخذتَها إلى مدة خمسة عشر يوما و قد حان أجلها منذ أيام و أنت متأخر عن دفعها فماذا تقول؟ فانكر الرجل أمام الحاكم و قال ما دعوى هذا الرجل عليّ إلّا زور و بهتان فالتفت الحاكم إلى التاجر و قال قد سمعتَ ما يقول غريمك فهل عندك صك عليه أو بينة؟ فحكى له التاجر تفصيل المسئلة و كيف أنه لَمَّا أعطاه المال لم يكن عنده أحد سوى كلبه الذي يُخبره بالقضية. فقال الحاكم و هل يُخبر الكلب عن هذا الرجل أنه استقرض منك دراهم؟ قال نعم. فتعجّب الحاكم و قال كيف يمكنه أن يُخبر؟ قال هو يخبر عنه بعد سماعه كلاما ذكرتُه له وقت استخباره و يُظهره أمامك و لو كان بين مئة رجل. فعند ذلك التفت الحاكم إلى الْمُدَّعى عليه و قال قد سمعتَ ما قاله صاحبك هذا فما تقول أنت؟ قال إن كان كلبه يُخبر بالإشارة كما يقول فأنا أدفع المال مُضاعَفا و إن ظهر كذبه فهو يدفع لي خمس مئة ليرة في مقابل افترائه. فقال التاجر قد رضيت. ثم إن الحاكم أمر الكاتب أن يُسجِّل الدعوى و صار الاتفاق أن يحضر التاجر إلى المحكمة بعد ثلاثة أيام و معه الكلب. ثم يحضر بعده المدعى عليه مصحوبا بجمهور من الناس. فإن عرفه الكلب و ميَّزه من بين القوم و دل عليه صح الإخبار و ثبت عنده المال. فذهب التاجر إلى مكتبه و عند المساء استدعى كلبه إلى المكان الذي لس فيه مديونه حينما جاء يطلب الدراهم و أخذ يذكِّره و يبين له بالإشارات و الكلام صفات ذلك الرجل و كيف أنه لم يكن أحد غيره حاضرا في ذلك الوقت و كيف أعلمه عند ما أخذ الدراهم و أنه قد أنكر المال و أنه بعد ثلاثة أيام يتواقفان للمرافعة. ثم قال إني أريد منك أيها المتيقظ أن تُؤَدِّيَ الأدلة عليه أمام الحاكم أي أن تُميزه من بين الناس و تدل عليه بإشارة واضحة. لأني قد قرَّرتُ أمام الحاكم بأن ليس عندي صاحب أدلة سواك. و ما زال يخاطبه بالألفاظ الرقيقة و الإشارات التي يفهمها و يعرفها حتى فهم الكلب و عرف مقاصد سيده فصار يهز له برأسه كأنه يُبَيِّن له أنه عرف جميع ما أشار به. و بقي التاجر مواظبا للكلب ثلاثة أيام و هو يتكلم معه في شأن ذلك إلى أن كان اليوم الثالث و هو يوم الميعاد. فأخذ كلبه و سار به حتى دخل على الحاكم. و كان هذا الخبر قد شاع في المدينة فجاء كثير من الناس ليروا ماذا يكون و ما يظهر من الكلب. ثم حضر الْمُدَّعَى عليه و هو في زيِّ غريب مصحوبا بجماعة من أصحابه و هم لابسون كلِبسه. فوقفوا بعيدا في ساحة الدار. فالتفت الحاكم إلى التاجر و قال قد جاء غريمك فدع كلبك يميزه لنا من بين القوم لنثبت لك ما عنده. فصاح التاجر على الكلب و قال له أريد منك أيها الكلب أن تبين لنا غريمنا الذي قصدنا في اليوم الفلاني و الوقت الفلاني إلى المكتب و أخذ منا المال على سبيل القرض إلى مدة كذا يوما و هو الآن قد أنكره فأرغب إليك في أن تميزه من بين هؤلاء الناس و تدل عليه بإشارة واضحة. فأسرع الكلب في الحال و شق ذلك الجمع و هو ينظر و يتفرس في كل إنسان منهم. و ما زال كذلك حتى وقعت عينه على غريم مولاه فعرفه و هجم عليه هجمة الذئب الكاسر و أخد يعضه بأتيابه حتى مزق ثيابه. فخاف الرجل و صاح بأعلى صوته اشهدوا علي أيها القوم أن مال التاجر صاحب هذا الكلب هو عندي فدعوني يخلصني من أنياب كلبه و أنا أدفع له ماله مضاعفا. فعند ذلك تقدم التاجر و رد عنه الكلب و أخذ ماله و قد تعجب الناس من ذكاء ذلك الكلب و قوة فهمه.
اَلدَّرْسُ السَّادِسُ وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
قَصِيدَةٌ فِي الزُّهْرِ
فَوْحٌ فُضُوحٌ عَزِيزٌ كَشْحٌ لَوْحٌ غُدُوٌّ
رَوَاحٌ نَطْحٌ نَطَّاحٌ نَوْحَةٌ
أَحْسَنَ اللهُ بِنَا إِنَّ الْخَطَايَا لاَ تَفُوحُ
فَإِذَا الْمَسْتُورُ مِنَّا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ فُضُوحُ
كَمْ رَأَيْنَا مِنْ عَزِيزٍ طُوِيَتْ عَنْهُ الْكُشُوحُ
مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْبَعْضِ فُتُوحُ
سَيَصِيرُ الْمَرْءُ يَوْمًا جَسَدًا مَا فِيهِ رُوحُ
بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ حَيٍّ عَلَمُ الْمَوْتِ يَلُوحُ
كُلُّنَا فِي غَفْلَةٍ وَ الْمَوْتُ يَغْدُو وَ يَرُوحُ
كُلُّ نَطَّاحٍ مِنَ الدَّهْرِ لَهُ يَوْمٌ نَطُوحُ
نُحْ عَلَى نَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ إِنْ كُنْتَ تَنُوحُ
لَسْتَ بِالْبَاقِي وَ لَوْ عُمِّرْتَ مَا عُمِّرَ نُوحُ
اَلدَّرْسُ السَّابِعُ وَ السِّتُّونَ وَ الْمِائَةُ
مُقَابَلَةُ الْإِسَاءَةِ و بِالْإِحْسَانِ
حَاجِبَةٌ إِنْكَارٌ مُرَقَّعٌ حِدْثَانٌ جَفْوَةٌ
دِهْلِيزٌ اِعْتِنَاقٌ مَقْصُورَةٌ لاَ حَيَّاكَ اللهٌ
يحكَى أنّ زبيدة زوجة هارون الرشيد كانت جالسة ذات يوم في قصرها فدخلت عليها حاجبتها تقول إن امرأة جميلة عليها ثياب بالية تريد الدخول عليك و تقول إنها تعرفك من قديم. فأنكرت زبيدة ذلك فطلب من حضر من جواريها الإذن لها فأذنت. فدخلت امرأة معتدلة الخلقة جميلة الصورة عليها رداء مرقع. فجعلت تمشي على استحياء حتى انتهت إلى باب المجلس فسلمت. فردت زبيدة عليها السلام و قالت لها من أنت؟ قالت أنا طريدة الزمان و طريحة الحدثان ماتت رجالنا و اختلت أموالنا و جفانا الصديق و كدنا نلقى على الطريق. فقالت لها زبيدة انتسبي. فقالت أنا ربيبة ابنة مروان بن محمد. فقالت لها لا حياك الله و لا سلم عليك. ثم ذكرتها ببعض حوادث حصلت منها في زمن عظمتها فبكت و قالت يا ابنة العم و أي شيئ أعجبك من الإساءة و قطع الرحم حتى تقتدين بي في ذلك ثم انصرفت. فندمت زبيدة على ما حصل منها و بعثت جواريها إليها فلم ترجع فقامت تعدو خلفها حتى أدركتها في الدهليز فاعتذرت إليها فرجعت. ثم أمرت زبيدة جواريها فأدخلنها الحمام و أحضرن لها أصنافا من الثياب فاختارت منها ما شاءت و تطيبت و أقبلت. فقامت إليها زبيدة و اعتنقتها و رفعت مجلسها. فلما دخل الخليفة قصت عليه القصة فشكرها و أمرها أن تعد لها مقصورة و جواري يخدمنها.
فِي – ... дђ/да, –тђ/та